27 - 09 - 2024

رؤية خاصة| نورا على طريق الغارمات

رؤية خاصة| نورا على طريق الغارمات

حضرتك ساكنة في العمارة؟ باغتني السؤال وأنا في المصعد عائدة من يوم عمل طويل. قبل أن أهز رأسي بالإيجاب عاد صوتها بغمغمات فككت شفرتها بصعوبة: محتاجة حد يشتغل؟ أنا عايزة أشتغل.

هممت بالرد لكنها استبقتني مرة أخرى: أنا أعمل هنا في المكتب الفلاني في الدور الحادي عشر. قالتها وكأنها تقدم استمارة فيش وتشبيه أو شهادة حسن سير وسلوك لتقتل في المهد أية شكوك أو مخاوف تتبادر للذهن في موقف كهذا.  

لست إذن الأولى التي تعرض عليها خدماتها؟ لا بأس. ولكن لماذا تبحث عن عمل وهي في الأصل تعمل هنا؟ ومتى ستعمل وهي -حسبما أرى- يبتلع عملها في المكتب سحابة نهارها ويجور على جانب من المساء؟ 

تشبثت عيناها بي وكأن كلماتي المنتظرة ستشكل مستقبل حياتها فنحيت أفكاري جانباً وطلبت منها أن تمر علي في اليوم التالي.  

******

النساء في بلادي كادحات

النساء في بلادي فقيرات

النساء في بلادي مستضعفات

النساء في بلادي حزينات

النساء في بلادي قوارير لا تجد من يرفق بهن

*********

في اليوم التالي جاءت- كما توقعت - بعد أن هجعت الشمس إلى مرقدها وانتشرت فلول الظلام لتبدأ دورة جديدة من الشقاء وتستخرج بما بقي لها من جهد ضئيل وإرادة هائلة مبلغاً من المال تعود به لأسرتها.   

لم تنل من رفاهية الحياة إلا اسمها؛ نورا. فيما عداه ادخرت لها الأيام جبالاً من العناء وتلالاً من الهموم وألقت على ظهرها مسؤوليات لا ريب أنها خبرتها منذ بكورة أيامها.. وهاهي تسعى بكل همة لتنقل إرثها الرهيب إلى طفلتها. ابنة ثمانية عشر عاماً ذات حظ ضئيل من شبه التعليم.. لا تعمل وتريد أمها أن تزوجها.. ولأجل زواج الطفلة تفجر الأم نفسها وتلقي بأشلائها على ألف باب للهلاك وتصنع من نفسها مشروع غارمة  ستعرف طريقها- بكل أسف- إلى السجن.

*********

أين الزوج وما موقعه من هذه المأساة الإنسانية. 

لم أسألها حتى لا أفتح أمامها باباً للشكوى ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. اكتفيت بما تنبئني به خبرة السنين؛ زوج بلا شهادة ولا حرفة يعمل في مهن بسيطة. في بداية الزواج كان يكد ويسعى بحماس كي يعود آخر كل نهار بما يسد الرمق ويملأ الأفواه. ثم هبت الزوجة الصبورة لمساعدة زوجها على المعيشة. يوماً فيوم وشهراً فشهر فتر حماس الزوج للعمل ووجد في دخل امرأته ما يغنيه عن السعي وشيئاً فشيئاً هبط  عبء العمل ومسؤولية تدبير المعيشة عن كتفي الزوج وحط بقسوة وعنف على كاهل هذه المسكينة!

**********

المرأة المعيلة في مجتمعنا ليست من مات زوجها أو طلقها. 

المرأة المعيلة في مجتمعنا تعيل نفسها وأطفالها وزوجاً مضرباً عن العمل!

******

  في مصر ملايين من المعيلات اللاتي لم يتم تمكينهن على نحو لائق للتصدي لمسؤولية إعالة الأسرة دون سند من الرجل.. هُن فقط يضربن في الأرض بدافع الاضطرار وأحياناً خوفاً من بطش الزوج العاطل. من رحم أولئك المعيلات خرجت ظاهرة الغارمات الجدد.. صريعات الاستدانة والشراء بالأجل المكبلات بإيصالات الأمانة والشيكات المؤجلة. فالمعيلة لا تسد نهم الأفواه الجائعة وسجائر الزوج فحسب بل مسؤولة عن تجهيز بناتها للزواج وشراء حصتهن من المفروشات والأثاث إلخ من جيوب خاوية ودخل يذوب يوماً بيوم.  وتحت شعار ستر البنات تفضح سترها وتواجه شبح السجن. انتبهت الدولة مؤخراً لهذه المشكلة لكن الحلول كالعادة تعالج العرض وتترك المرض يستفحل. حوالي ألف سيدة غارمة تولى صندوق تحيا مصر سداد ديونهن وخرجن لأسرهن في عيد الفطر الماضي وغيرهن غارمات تولى بيت زكاة الأزهر فك كربهن. كما أن هناك جمعيات أهلية وجهود مدنية تسهم أيضاً في معاونة غارمات أخريات.. لكن نهر الديون لايتوقف عن الجريان ويحمل فوق مياهه كل يوم جثث ضحايا جدد. وسيظل للأسف يجري إذا استمر التحالف المتعدد الأطراف بين الفقر والبطالة والضغوط المجتمعية والثغرات القانونية وغياب الحماية الاجتماعية ونقص الوعي وتعاظم التطلعات بين كافة الفئات مهما قلت إمكاناتها وتداعت فرصها.

على كل المستويات نحتاج تغييراً في الثقافة والمفاهيم.. في اعتقادي كان الأولى بصندوق تحيا مصر وبيت الزكاة والجمعيات الأهلية أن تقدم - باتفاقات مع البنوك الاجتماعية- قروضاً ميسرة بلا فائدة أو رسوم من أي نوع لأهالي المقدمين على الزواج، تغطي قيمة المتطلبات الأساسية فقط للزواج، وتعفيهم  من خوض تجربة الاستدانة والأقساط المحملة بالفوائد الباهظة والشيكات المضاعفة القيمة ولتوقف، من ناحية أخرى، ثقافة التسول  وإهدار الكرامة والانصياع بلا وعي للتطلعات المبالغ فيها.  وفِي الوقت نفسه فإن المبادرة بسداد ديون الغارمات يجب أن تكون وفق عملية فرز دقيقة وأن تغطي - أيضاً- المتطلبات الأساسية للزواج للقضاء على فكر الاستسهال والاستهانة بعقوبة الحبس أو إساءة استغلال المساندة المجتمعية. فالضرورات تقدر بقدرها!
 --------------
بقلم: منى ياسين

مقالات اخرى للكاتب

رؤية خاصة| نورا على طريق الغارمات